اعلم يا أخي بأن ابتداء تدبير النطفة إنما صار لزحل من أجل أنه على الكواكب السيارة فلكاً مما يلي فلك الكواكب الذي هومكان الجواهر الشريفة، ومنصب القوى الروحانية، ومعدن النفس القدسية ومستقر الأرواح الخيرة ومبدأ القوى العقلية، والملائكة العلاّمة المفكّرة، والأجرام النيرة الشفافة، ومن هناك تترل الملائكة بالوحي والتأييد والأنباء والخير والبركات ثم اعلم يا أخي بأنه ما دام التدبير لزحل إلى تمام شهر، ثلاثين يوماً، فإن تلك العلقة تكون باقية بحالها، غير مختلطة ولا ممتزجة، بل جامدة متمسكة جارية إليها المواد، لغلبة برد زحل وسكونه، وثقل طبيعته،
إلى أن يدخل الشهر الثاني
، ويصير التدبير للمشتري الذي فلكه يتلوفلك زحل، وتستولي عليها قوى روحانيته، فيولد عند ذلك في تلك العلقة حرارة، وتسخن ويعتدل مزاجها، ويختلط الماءان، ويمتزج الخلطان، ويعرض لتلك الجملة حركة مثل الاختلاح والارتعاش والهضم والنضج، فلا تزال هذا حالها ما دامت في تدبير المشتري إلى تمام شهرين.
ثم يدخل الشهر الثالث،
ويصير التدبير للمريخ الذي يلي المشتري في الفلك، وتستولي على تلك العلقة قوى روحانيته، ويشتد اختلاجها وارتعاشها، ويتولد فيها فضل حرارة وسخونة، وتصير تلك العلقة مضغة حمراء، فلا تزال تنقلب حالاً بعد حال من النضج والاستحكام بمشاركة قوى روحانيات سائر الكواكب للمريخ إلى تمام ثلاثة أشهر. ثم يدخل الشهر الرابع، ويصير التدبير للشمس رئيسة الكواكب وملكة الفلك، وقلب العالم بإذن الباري جل ثناؤه.
واعلم يا أخي بأنه إذا دخل الشهر الرابع
من مسقط النطفة وصار التدبير للشمس، واستولت على المضغة قوى روحانياتها نفخت فيها روح الحياة، وسرت فيها النفس الحيوانية، وذلك لأن الشمس هي رئيسة الكواكب في الفلك، ونفسها هي روح العالم بأسره س
اعلم يا أخي بأنه إذا دخل الشهر الخامس
، وسارت الشمس إلى البرج الخامس المسمى بيت الولد، الموافق طبيعته للبرج الذي كان فيه يوم مسقط النطفة، وصار التدبير للزهرة السعد الأصغر، وصاحبة النقش والتصاوير، واستولى على المخلّقة قوى روحانياتها استتمت الخلقة، واستكملت البنية، وظهرت صورة الأعضاء، واستبان رسم العينين، وانشق المنخران، وانفتح الفم، وثقب الأذنين، ومجرى السبيلين، وتميزت المفاصل، ولكن الجنين يكون مجموعاً منظماً، منقبضاً كأنه مصرور في صرة ركبتاه مجموعتان إلى صدره، ومرفقاه منضمان إلى حقويه، وهومنكّس رأسه على دفّته وعلى ركبتيه، وكفاه على خديه، وهوشبه نائم محزون.
ثم اعلم أنه عند دخول الشهر السادس
، يصير التدبير لعطارد، وتستولي عليه قوى روحانياته، فيتحرك عند ذلك الجنين في الرحم، ويركض برجليه، ويمد يديه، ويبسط جوارحه، ويضطرب ويحس بمكانه، ويفتح فاه، ويحرك شفتيه، ويتنفس من منخريه، ويدير لسانه في فيه، فيكون تارة متحركاً، وتارة يسكن، وتارة ينام، وتارة يستيقظ. فلا يزال ذلك دأبه إلى أن يتم الشهر السادس،
ويدخل الشهر السابع
، ويصير التدبير للقمر، وتستولي عليه قوى روحانياته، قيربولحم الجنين حينئذ، وتسمن جثته، وتنتصب قامته، وتشتد أعضاؤه، وتصلب مفاصله، وتقوى حركته، ويحس بضيق مكانه، ويطلب التنقل والخروج. فإن قدر له ذلك بما يوجب أحكام النجوم بأسباب يطول شرحها وخروجها على المجرى الطبيعي، وكان الجنين كاملاً عاش وتربى وعمر . وإن بقي هناك إلى أن يدخل
الشهر الثامن
وتدخل الشمس بيت الموت، ويرجع التدبير إلى زحل من الرأس، فتستولي عليه قوى روحانياته، عرض للجنين ثقل وسكون، وغلب عليه البرد والنوم وقلة الحركة. فإن ولد في هذا الشهر كان بطيء النشوء، ثقيل الحركة، قليل العمر، وربما كان ميتاً. وإذا دخل الشهر التاسع وانتقلت الشمس إلى البرج التاسع بيت النقلة والأسفار، ورجع التدبير إلى المشتري السعد الأكبر، واستولت عليه قوى روحانياته، واعتدل المزاج وقويت روح الحياة، ظهرت أفعال النفس الحيوانية في الجسد، لأن الشمس تكون قد استوفت طبائع البروج المثلّثات: النارية والمائية والهوائية والترابية مرتين في الثمانية الأشهر.
المصدر : رسائل اخوان الصفا